السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رغم مباهجه الكثيرة، فإن الصيف يحمل أيضا نصيبه العادل من الأوبئة، وأحد هذه الأوبئة، الذي يعرف باسم «داء البابيزيا» (babesiosis)، لم يتم الاعتراف به سوى في الآونة الأخيرة كمرض من أمراض الهواء الطلق ربما يكون خطرا.
وطبقا لدراسة مفصلة للغاية جرت في جزيرة بلوك بولاية رود آيلاند الأميركية، فقد وصل هذا المرض في النهاية إلى منافسة «داء لايم» (Lyme disease) كأكثر الأمراض التي تنتقل عبر القراد شيوعا في الولايات المتحدة.
ولكن مع اتخاذ احتياطات معقولة، فإن أيا من «داء البابيزيا» أو «داء لايم» لا ينبغي أن يمنعك من الاستمتاع بإقامة حفل على العشب أو بجولة وسط الغابات.
ويحدث «داء البابيزيا»(مرض لدغة القراد) بسبب كائنات أولية وحيدة الخلية تغزو كريات الدم الحمراء وقد تسبب مرضا شبيها بالملاريا، ويتمتع هذا المرض بتاريخ مثير للاهتمام، كما ذكر مؤخرا في مجلة «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين» كل من د. بيتر كراوس وهو باحث في «جامعة ييل» ومتخصص بالأمراض المنقولة عبر القراد، وإدوارد فانيير وهو خبير في علم المناعة لدى «مركز تافتس الطبي».
لدغة القراد
سمي «داء البابيزيا» على اسم د. فيكتور بابيز، وهو اختصاصي روماني في علم الأمراض «الباثولوجي»، اكتشف هذا المرض عام 1888 في ماشية أصيبت بحمى وظهرت لديها آثار دماء في البول.
وحتى منتصف القرن العشرين، لم يكن هذا المرض معروفا سوى في الحيوانات البرية والمنزلية، التي يمكن أن تصاب بالعدوى من أكثر من 100 نوع مختلف من «طفيليات البابيزيا».
ولم تكتشف أول إصابة لدى الإنسان حتى عام 1957، حين مات راع كرواتي لم يكن لديه طحال، وهو عضو مهم بالنسبة للمناعة، سريعا بهذه العدوى، التي التقطها على الأرجح من الحيوانات التي كان يتعامل معها.
وبعد 12 عاما، تم اكتشاف أول حالة لدى شخص يتمتع بمناعة طبيعية في جزيرة نانتاكيت، ولسنوات ظل يطلق على هذا المرض اسم «حمى نانتاكيت» (Nantucket fever).
وعلى عكس «داء لايم»، الذي سرعان ما تفشى في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، فإن «داء البابيزيا» ينتشر ببطء عبر الإقليم الشمالي الشرقي والإقليم الأوسط الشمالي الشرقي، حيث يكتشف بصورة متزايدة أنه السبب في الإصابة بمرض صيفي يشبه الإنفلونزا.
ويقال إن «داء لايم» ينتقل على أجنحة الطيور، التي يرى بعض الخبراء أنها تحمل البكتيريا المسببة لهذه الحالة، أما «داء البابيزيا» فهو ينتقل على ظهور الفئران والأيل، ولا ينتقل عن طريق الطيور.
ولكن على غرار البكتيريا التي تسبب «داء لايم»، فإن «طفيليات البابيزيا» تنتقل إلى البشر عن طريق حشرات القراد، التي تلتقط العدوى من الفأر ذي الأقدام البيضاء والأيل أبيض الذيل.
كما أن نفس حشرة القراد - وهي «اللبود الياقوتي » (Ixodes scapularis)، المعروفة باسم «قراد الأيل» (deer tick) - تنقل كلا من «داء لايم» و«داء البابيزيا» في الولايات المتحدة.
ويحتاج «قراد الأيل»، الذي يكون في البداية بحجم بذرة خشخاش، إلى وجبة من الدم في كل مرحلة من مراحل نموه.
وبفضل ساقيه الخلفيتين اللتين تساعدانه على التشبث بالعشب أو بأوراق النبات، يجلس القراد في صبر، مع إبقاء ساقيه الأماميتين الشبيهتين بالكماشة منبسطتين ومتأهبتين للإمساك بأي حيوان ثديي غير منتبه يتصادف مروره إلى جانبه.
وفي الربيع أو الصيف، قد يكون هذا الحيوان الثديي هو أنت، أما في الخريف، فإن القراد البالغ يتغذى على الأيل أبيض الذيل، الذي لا يمرض، وهذه التغذية تسمح لأنثى القراد بإفراز كمية غزيرة من البويضات لإنتاج الجيل التالي.
مرض مثير للقلق
وقد ذكر د. كراوس، في حوار أجري معه: «(داء البابيزيا) هو مرض عالمي بالفعل، رغم أن معظم الحالات حتى الآن ظهرت في الولايات المتحدة، فتوزيعه الجغرافي يتسع، ونحن نعتقد أنه سيصبح بمرور الوقت قريبا مهما بشكل متزايد لـ(داء لايم)».
وفي عام 2011، وهو العام الأول من المراقبة على المستوى الوطني، لم تسجل سوى ألف حالة من «داء البابيزيا»، إلا أن الدراسة التي أجراها د. كراوس في جزيرة بلوك، التي تتبعت خطر العدوى بين 70 في المائة من السكان الذين يعيشون هناك، كشفت عن أن انتشار «داء البابيزيا» يعادل ثلث معدل انتشار «داء لايم» لدى من ظهرت لديهم الأعراض، وأنه مساو تقريبا لمعدل انتشار «داء لايم» لدى من لم تظهر لديهم أي أعراض.
ومن المتوقع أن يستمر عدم التسجيل الدقيق لحالات الإصابة بـ«داء البابيزيا» لفترة طويلة، فمن لا يعانون سوى أعراض خفيفة لن يذهبوا على الأرجح إلى الطبيب، ومن دون علامة كاشفة مثل الطفح الجلدي المصاحب لـ«داء لايم» والمعروف باسم «عين الثور» (bull›s - eye) أو إجراء اختبار بسيط للكشف عن العدوى، فمن المستبعد أن يتمكن معظم الأطباء من تشخيص «داء البابيزيا» تشخيصا سليما، طبقا لما ذكره د. كراوس.
وقد توصلت الدراسة التي أجراها إلى أن ربع من أصابتهم العدوى من البالغين ونصف من أصابتهم من الأطفال لم تظهر لديهم أي أعراض، ولكن إذا تبرعوا بالدم، فإنهم قد ينقلون العدوى إلى الآخرين، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، إذ لا يوجد أي اختبار واسع الاستخدام لغربلة المتبرعين بالدم بحثا عن عدوى «طفيليات البابيزيا».
وبالمثل، فإن سيدة مصابة بالعدوى قد تنقل الطفيليات إلى طفلها أثناء الحمل أو الولادة.
ويكون خطر الإصابة بعدوى شديدة وربما قاتلة أعلى ما يكون لدى الأطفال حديثي الولادة والبالغين فوق سن 50 عاما وأي شخص لديه ضعف في المناعة، كالمصابين بالسرطان أو الإيدز أو من تعرضوا لعملية زرع أعضاء، وكذلك من لا يوجد لديهم طحال، حيث أوضح د. كراوس أن الطحال «يساعد على تنقية الدم من الكائنات التي لا ينبغي أن تكون هناك».
وأضاف: «إنه ينتج أجساما مضادة تهاجم الطفيليات، التي تلقي خلايا البلاعم القبض عليها بعد ذلك، وهو يعمل مثل الغربال، حيث يقوم باستبعاد كرات الدم المصابة بطفيليات البابيزيا، والتي تكون أكبر من أن تمر من عملية الغربلة وتعود إلى الدورة الدموية».
الوقاية والعلاج
وتماما كما في «داء لايم»، تشمل احتياطات الوقاية من لسعة إحدى حشرات القراد الحاملة لـ «داء البابيزيا» البقاء في بقع خالية من الأشجار لتقليل ملامسة أوراق النباتات المتناثرة وأجمات الأشجار والعشب الطويل، وارتداء جوارب مثبتة في سراويل طويلة وقمصان بأكمام طويلة (وإن لم يكن هذا هو الاختيار الأكثر مناسبة في يوم صيفي حار)، ووضع مادة طاردة للحشرات على المناطق المكشوفة من البشرة والملابس، فمن الممكن وضع المنتجات التي تحتوي على مادة «دي إي إي تي» مباشرة على البشرة ورشها على الملابس، وينبغي عدم استعمال المنتجات التي تحتوي على مواد «البيرثرين» سوى على الملابس والأحذية فقط.
كما ينبغي أن تكون فحوصات لسعات القراد روتينا يوميا مثل غسل الأسنان لمن يعيشون في بيئات تعيش فيها هذه الحشرات، واحرص على فحص كل المناطق، مستعينا بمرآة عند الضرورة، مثل الإبطين والعضلة الضامة والسرة ومؤخرة العنق وخلف الركبتين وبين أصابع القدم وخلف الأذنين وداخلهما وفروة الرأس.
وإذا عثرت على حشرة قراد، استعمل دون إبطاء ملقاطا ذا رأس رفيع للإمساك بها بالقرب من الجلد ثم انزع لأعلى بضغط ثابت ومتساو، ولا تدر الملقاط أو تنزعه بعنف، ثم نظف هذه المنطقة ويديك أيضا بالكحول الطبي أو بالماء والصابون.
ومن يصابون بالعدوى قد يظهر عليهم المرض بعد أسبوع واحد إلى 4 أسابيع من التعرض للسعة القراد، وتتضمن الأعراض الشائعة الحمى والتوعك والإعياء والارتجاف وتصبب العرق والصداع وألم العضلات والمفاصل وفقدان الشهية والسعال والغثيان، وربما يكشف تحليل الدم عن وجود إصابة بالأنيميا.
ويأتي تشخيص معين من اكتشاف الطفيل في عينة من الدم، ويقترح د. كراوس أن تقوم المختبرات بفحص 300 حقل مجهري قبل استبعاد هذا المرض. ورغم أن العدوى تزول عند بعض الناس دون علاج، فإن معظمهم يحتاجون إلى مزيج من المضادات الحيوية - وعادة ما يكون «أتوفاكون» (Atovaquone) واسمه التجاري هو «ميبرون» (Mepron) مع «أزيثرومايسين» (azithromycin) واسمه التجاري هو «زيثروماكس» (Zithromax) - لمدة تتراوح من 7 إلى 10 أيام.
وشدد د. كراوس على ضرورة علاج المرضى حتى من ظهرت لديهم أعراض طفيفة، لأنه قد يشتد عليهم المرض في وقت لاحق أو قد ينقلون العدوى إلى الآخرين عن طريق التبرع بالدم.
دام الله عليكم الصحه والعافيه